هو الإمام العلامة الحجة الداعي إلى الله على بصيرة محمد بن سالم بن حسين الكدادي البيحاني رحمه الله تعالى. وهو شخصية فريدة متميزة ظهرت واشتهرت بالعلم والمعرفة والإصلاح بين الناس حتى أصبحت مناراً يذكر في الآفاق، يقول فيه تلميذه الشيخ العلامة محمد عبد الرب جابر: فضيلة الشيخ محمد بن سالم البيحاني الكدادي من علماء اليمن الأجلاء وشيوخها الفضلاء ورجالاتها الأبرار الذين قضوا حياتهم في خدمة الدعوة الإسلامية والعقيدة الربانية عقيدة التوحيد وكذا خدمة البلاد والعباد فنشر العلم والمعرفة لتبصر الناس بحقوقهم وحقوق خالقهم عليهم وتوجيه النشئ والنصح والإرشاد لأبناء الوطن فعاشوا سعداء ويتمثل في شيخنا البيحاني رحمه الله قول الشاعر:
وإنني بأدبي وعلمي وعفتي عزيز على من يعرفون مقامي
ولد ذلكم الإمام في شهر رجب عام 1326هـ الموافق 1908م في مدينة بيحان حصن هادي مدينة القصاب.
وقد فقد الإمام بصره صغيراً وهو في سن الخامسة من عمره ولكن الله عوضه ببصيرة ثاقبة جعلته يتوقد ذكاء وفطنة وسرعة بديهة وقوة حفظ حيث أنه حفظ القرآن الكريم وهو في سن الصبا وكان يذكر لبعض تلاميذه أنه لا يزال يذكر الشمس عند المغيب واضحة أمام عينيه كأنه رآها البارحة.
ولقد نشأ الإمام نشأة صالحة في أسرة علم وصلاح وتربى في كنف والده وتلقى عليه مبادئ العلوم الشرعية.
ولما بلغ الثالثة عشر من عمره ارتحل مع أخيه عبد الله وبن عمه إلى تريم الغناء لطلب العلم والازدياد منه على أيدي رجالات العلم من السادة العلويين وغيرهم من علماء حضرموت وهناك أقام في رباط تريم أربع سنوات وسبعة أشهر أخذ فيها جمله من الفنون في مختلف العلوم وكان أشهر مشائخه السيد العلامة عبد الله بن عمر الشاطري حتى أن الإمام البيحاني ذكر أنه من أكبر وأجل وأفضل مشائخه.
وقد قال فيه مادحاً:
هو الشاطري العــــالم العامل الذي تعلمـــت من تقريره الشرح والمتنا
إذا مــــابــــكـــت عينـي لألنـــــا فـذلك مما كان يحشــو به الأذنا
قضى زمنا في خدمة العلم رافعاً بنـــاء ربـــاط لا يشابهـــه مبنـى
وأي غريب جاء فهو واجــــــــد به العلم والقوت الضروري والسكنى
وقال في إهداء كتابه (إصلاح المجتمع) لشيخه الشاطري ما نصه:
على دين لازم و حق ثابت لكثير من الناس وأعظمهم حقاً عليّ والدي الذي كان سبباً في وجودي وله بعد الله الفضل الأكبر عليّ أستاذي العظيم صاحب الفضيلة السيد عبد الله بن عمر الشاطري العلوي الحضرمي كانت له عناية كبيرة وله عليّ يد بيضاء لا أستطيع مكافأتها عليها إلا بالدعاء له والترحم عليه وهو أول من فتق لساني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظني بنفسه الأربعين النووية وشرحها لي وكان يحرص كل الحرص على تعليمي الفقه والنحو والتجويد وعلم المواريث ويحث زملائي وأساتذتي الآخرين على الاهتمام بي ومراجعة دروسي فجزاه الله عني أفضل ما جوزي به معلم عن متعلم واعترافاً بفضله وتقديراً لإحسانه أقدم هذا الكتاب هدية إلى روحه الطاهرة وأسأل الله أن يبلغه عني التحية والسلام ولو كان سيدي الوالد (رحمه الله) حياً لما سره أن يكون هذا الكتاب هديه إلا إلى السيد الشاطري تغمد الله الجميع بفضله وجمعنا بهما في جنات النعيم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً..
وقد أخذ الشيخ البيحاني أيضاً عن جماعة من علماء حضرموت ذكرهم في رسالته إلى علماء عدن وحضرموت حيث قال: ودخلت رباط تريم يوم 25 ذي القعدة 1339هـ ثم ما زلت أقرأ القرآن على يدي المعلمين سعيد عمر باغريب وسلمان بلغيث وأكبر وأفضل وأجل مشائخي هو السيد عبد الله بن عمر بن أحمد بن عمر الشاطري باعلوي والآخرون كثيرون جداً ومنهم السادة محمد بن سالم السري وعبد الباري بن شيخ العيدروس وعلوي بن عبد الرحمن المشهور وعلي بن عبدالرحمن المشهور وعلوي بن عبد الله بن شهاب وعلي بن زين الهادي وجالست من كبار العلويين حسن بن محمد بلفقيه وأولاده وعبد الله بن عيدروس العيدروس وزين العابدين بن جنيد وعليه حضرت بعض الدروس في ألفية بن مالك وتتلمذت في الفرائض على يد السيد عمر بن علوي الكاف وفي النحو على يد الشيخ عمر بن عوض حداد ولي شيوخ غيرهم في التفسير والحديث والفقه والنحو والتصوف ولا يتسع المقام لحصرهم وممن كان يزورنا في الرباط أحياناً نحضر دروسه في الجامع السيد أحمد بن عمر الشاطري وكنت أحفظ بعض الشواهد التي يوردها ويمليها على الطلاب.
هكذا كان عهد البيحاني بشيوخه الذين كانوا يسقونه من الرحيق الطيب ما يفتق به ريقه ويربو به قلبه وروحه فيذكرهم ويعترف بفضلهم ويتشرف بالانتساب إليهم حتى أنه كان يتذكر تلك الأيام التي قضاها معهم بالجلوس معهم ينهل من معارفهم ويذوق الوصال بقربهم فيقول:
رعــى الله أيام الوصال وإذ كنا مع السادة الأشراف في بلد الغنا
تريم التي طاب الحديث بذكرها فـيا حبذا الغنا ويا حبذا المغنا
وبعد أن قضى وقتاً طويلاً في ربوع تريم الغنا يطلب العلم عاد إلى بلده بيحان وقد توفيت أمه قبل وصوله من تريم بأربعة أشهر, وفي بيحان مكث عامين إلى جوار أبيه يحضر دروسه وكان والده يصدره ويسمع تدريسه لكي يشجعه على العلم ويعوده حسن التعبير.
وبعد أن مرت العامين نصحه والده بالسعي إلى عدن وذلك في عام 1346هـ وهناك استفاد كثيراً من فضيلة الشيخ أحمد بن محمد العبادي.
ثم سافر إلى مصر عضواً في (نادي الإصلاح العربي الإسلامي) وهناك التحق بالأزهر الشريف وظل يدرس فيه نحو ثلاثة أعوام وقد حصل على الشهادتين الأهلية والعالمية كما التحق بكلية الشريعة إلا أنه لم يمكث فيها سوى عام واحد فقط وألجأته الظروف إلى تركها والعودة إلى مدينة عدن مرة أخرى وذلك عام 1362هـ وفي عدن أقام الدروس العلمية مع الاستفادة من علمائها الموجودين فيها آنذاك بل أن الاستفادة لم تقتصر على ممن هم في عدن بل تعدت إلى كل من يفد إليها من رجالات العلم والفضل والمعرفة من مختلف الأقطار والأمصار كاستفادته من مفتي حضرموت السيد العلامة عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف ومفتي جوهر بماليزيا السيد العلامة علوي بن طاهر الحداد ومن محدث اندونيسيا سالم بن أحمد جندان وغيرهم.
وفي عام 1369هـ تولى الإمام والخطابة في مسجد الإمام العسقلاني وأول عمل قام به هو تجديد وتوسيع المسجد وكان ذلك عن طريق جمع التبرعات من أهل الخير والفضل وقد افتتح المسجد بحفل كبير مساء الخميس 15 محرم عام 1370هـ وألقى فيه الشيخ البيحاني قصيدة ذكر فيها أهمية المسجد ودوره في بناء الأمم والأجيال قال فيها:
يا جامع العسقلاني الذي حفظت فيه الشريعة والإسلام حين بني
إذ نؤمل أن تبقى مشيـدة للعلم أركانك الشما بلا وهن
فـافـتح لنا باباً مغلق وعلى هـــداية الناس بالرحمن فاستعن
أدِّ الرسالة واجمعنا مع العظماء بالعلم والفضل والآداب في قرن
واستمر في مسجد الإمام العسقلاني حتى عام 1389هـ وكان رحمه الله يقوم خلال تلك الفترة بالتدريس والإرشاد والتوجيه للأمة بالحكمة والموعظة الحسنة على وفق منهج الوسطية والاعتدال مما حدا بالكثير من طلاب العلم إلى الالتفاف حوله والنيل من فيوضات علمه وفي تلك الفترة كان يفكر ببناء معهد يكون مناراً للعلم والدعوة وبحمد الله لقيت تلك الفكرة إعجاباً من الأهالي وأهل الخير وعمل على تحقيقها من خلال جمع التبرعات من أهالي عدن والتجار فيها ولم يقتصر على ذلك بل سعى في كثير من الدول التي توجد فيها جاليات يمنية كدول الخليج والأردن ومصر وعيرها من بلاد الإسلام حتى جمع أموالاً طائلة لهذا المشروع وبدأ العمل في بنائه يوم الأربعاء 11 صفر 1357هـ الموافق 28/9/ 1955م وقد عملت هذه اللجنة على إقامة عدد من العمارات كوقف ثابت يضم استمرار المعهد في أداء رسالته العلمية.
واستمر العمل في إنشاء المعهد سنوات حتى تم افتتاحه يوم الأربعاء في الأول من شهر ربيع الأول سنة 1377هـ الموافق 25/9/ 1957م وقد حضر الافتتاح وفود كبيرة من داخل البلاد وخارجها وقد ألقى الشيخ البيحاني قصيدة قال فيها:
وها هنا المعهد العلمي نفتحه كأنه الأزهر الباقي على الزمن
وهـــذا المعهد العلمي يبقى كـما تبقى الشوامخ في الثبات
وفي 8 ربيع الأول سنة 1377هـ الموافق 2/ 10/ 1957م بدأت الدراسة في المعهد بالمرحلتين الأساسية - الابتدائية والمتوسطة - وكان عدد الطلاب الدارسين في المعهد آنذاك 700 طالب وعدد المدرسين 23 مدرساً, ثم تطورت بعد ذلك الدراسة بافتتاح القسم الثانوي وذلك عام 1379هـ الموافق 1959م.
وقد عين الدكتور ناظم نبيه البيطار الأردني الجنسية مديراً للمعهد واستمر المعهد يؤدي رسالته العلمية حتى تم إغلاقه على أيدي الشيوعيين عام1972م ولكن إرادة الله شاءت أن يستمر المعهد في أداء رسالته العلمية في ظل الوحدة المباركة فأعيد افتتاحه مرة أخرى ليقوم بدور التوجيه والإرشاد تحت مسمى معهد البيحاني للتوجيه والإرشاد فرع المعهد العالي للتوجيه والإرشاد
نعم سنعـود والدنيا بخير وأمرك نافذ يا ذا الجلال
وشأن الحق أن يبقى طويلاً وأما الشر فهو إلى الزوال
وقد قال الشيخ البيحاني في المعهد العلمي الكثير من الأبيات التي يفاخر بها ومنها:
وهــذا المعهد العلمي بيتي ومـنه سأحمل النفس الكبيرة
قواعده على الإسلام قامت حذاء الفرقدين وقوف صيرة
وقال أيضاً:
ولكن معهدي وله حياتـي بذلت وما جمعت من الحلالي
وفيك عصرت أفكاري ولما بنيتك بعد أعوماً طوالــي
تلاميذ البيحاني:
البيحاني عالم علم غزير واسع المدرك قوي الحافظة لازمه الكثير من طلاب العلم فاستفادوا من غزارة علمه وأخذوا من ينابيع حكمته ومن أولئك الذين اخذوا عنه فضيلة الشيخ العلامة محمد عبد الرب جابر والسيد العلامة أبو بكر العدني بن علي المشهور والأستاذ المؤرخ أمين سعيد باوزير والسيد العلامة صادق بن محمد العيدروس والشيخ العلامة أحمد بن أحمد مهيوب والسيد العلامة سالم بن عبد الله الشاطري والشيخ محمد صالح السودي والشيخ صالح بن حسين المسيبلي والشيخ عبدالرحمن هائل الشميري.
مؤلفاته:
ولفضيلة الشيخ البيحاني العديد من المؤلفات العلمية التي تعطينا صورة واضحة عن سعته العلمية وواسطيته في فهم النصوص الشرعية باعتدال واتزان من غير إفراط ولا تفريط.
ومن أهم مؤلفاته:
1. الفتوحات الربانية
2. وإصلاح المجتمع
3. وأشعة الأنوار على مرويات الأخبار
4. وأطيب الكلام على مولد سيد الأنام
5. وديوان أشعاره بغيه القاصد من أحسن المقاصد.
وعاش الإمام البيحاني مناراً يستضاء به وقبلة يتوجه إليها في الإصلاح وطلب العلم الشرعي ولكن ذلك كله أضاق قلوب أناس غفلت عن ذكر الله فطمست قلوبهم وأعمى الله أبصارهم فعمدوا إلى مضايقته فاضطر ذلك إلى مغادرة عدن عام 1389هـ إلى مدينة تعز وأقام فيها حتى عام 1392هـ وكان قلبه في تلك الفترة يحن إلى عدن وما في عدن معهد ومجالس للعلم والأخوان.
وفي عام 1392هـ سافر إلى الحجاز لأداء مناسك الحج وزيارة سيد الأنام ثم عاد إلى تعز وبعد عودته بيوم واحد انتقل إلى جوار ربه ليلة الجمعة 24 ذي الحجة سنة 1392هـ الموافق 10/2/ 1972م.
وقد أقيم له بعد وفاته تأبيناً حضرة العلماء وكثيراً من الأهالي والأعيان وقد ألقى في ذلك التأبين العديد من العلماء والشعراء المراثي الدامعة في فضيلة الشيخ البيحاني.
رحم الله الامام العلامة البيحاني ورضي عنه
التوقيع
أقول له: عمرا فيسمعه سعدا *** وأكتبه حمدا وينطقه زيدا!
وإذا الفتى عرف الرشاد بنفسه***هانت عليه ملامة الجهال