في تاريخ الفكر الأنساني ، ارتبط الإبـــــــــداع عادة بالمعاناة والبؤس ، وظلت صورة المبدع في الذاكرة الجماعية ذلك الإنسان البسيط المهمش الذي يكتب بقلم مغمس في حبر الفقر والشقاء ، لاتعيقة أهوال الحيـــــــــاة وأعاصيرها ، يكتب ولو في بطن الحوت، ولوتحول هذا الفقر إلى رجل فهو لايقتله ، يحس بقلمه أنه سيــــــــد نفسه وأمير العالم ، ويشعر ، في أختلاف تفكيره ورؤيته لأناه وللعالم ، بتميزه ، وبتزايد أنفته وعزته ، ولايصـــــــــرخ إلا في وجه جلادي الكلمة المضيئة ، ولا يطمح إلا إلى هامش صغير للبوح، وإلى مســـــــــاحة صغيرة للتعبير ، بعيدا عن رقابة الســـــــــلطـة وأعينها ، فقط لكي يبصر أحسن وينتقد أكثر .
هكذا عودنا مبدعونا ، يحرســـــــــون مملكتهم الإبداعية في صمت وامتلاء وسمو وشموخ ، يؤمنون أن من ينتج ذهبا" صقيلا" من الكلمات، لايحتاج إلى كنوز العالم ، و((جبران خليل جبران)) تساءل يوما (( من يبيعني فكرا جميلا بقنطار من الذهب ؟)) ، ويصرون على صنع الحياة ، ولو من صحاري الألم والتجارب المريرة ، فــ ((فان كوخ)) عضه الفقر ، لكنه ظل يرسم باستمـــرار و((تشايكوفسكي)) ظل يلحن وان أنشبت الفاقة أنيابها فيه ،والروائي المغربي ((محمد شكري)) أشتكى في طفولته من (( الخبز الحاف)) لكن ســــــــرعان ما غمسه في مرق المتعه والجمال والإبـــــــــداع .
لا أظن أن الفقر يمنع انبجاس الروح ، قد يشوش على الإبـــــــــداع ، لكنه لايعيقه كثيرا ، ولايفقده ألقه وبريقه ، فما يقلقه أكثر هو ذلك القحط والجفاف الروحي ، ونكسة المبدع ستكون أكثر إيلاما إذا اجتمع جفاف الروح وقحط الجيب .
لكـــــــــن هذا لايعني ، أن يظل المبدع يكتب تحت معول ومتاريس الفقر والحاجة ، فكفاه تلك المعاناة التي يعيشــها أثناء عملية الكتابة ، وصورة المبدع البئيس المهمش ربما عليها أن تولي بـــــــــلا رجعة ، وأنا على يقين من أن الإبـــــــــداع إذا دلل ومنح الرعاية والأهتمام ، لن يفقد حرارته وقوة تاثيره ،
بل سيزداد وهجا" وألقا وغنجا"، وستحفظ كرامته وإبداعيته . فالمبدع ، بالإضافة إلى حاجته إلى إشبـــــــــاع روحي ووجودي ، هو في حاجة كذلك إلى إشباع بيولوجي، في حاجة إلى تأمين ظروف عيشه ،وإلى توفير الدعم المادي والمعنوي كي يكتب باطمئنان وهدوء .
وثمـــــــــة بعض المبدعين ممن راقتهم ، مع الأســـــــــف ، فكرة لعب دور القديس أو المسيح ، أو الشمعة التي تحترق لتضيء العالم ، لاستدرار عطف الآخرين عليهم ، ولتسليط الضوء على كتاباتهم .
والمبدعون العــــــرب الحقيقيون ، ممن نجحوا بصدق في تطهير أرواحنا من قذارة العالم ،
لايبدعون باعتباطية أو عبثية ،
بل بجدية وصرامة ،و(( ومحمود درويش)) كان يصرخ دائما في حواراته ، بأنه يجد صعوبة في الكتابة بعيدا" عن مكتبته ، وأنه يخصص لشعره زمنا" محددا يشتغل فيه ، وأن الشعر بالنســـــــــبة له دربة وممارسة ومثابرة لتلميع كلماته ولغته ، كي تظل مشرقة على الدوام ، وليس فقط مجرد إلهام وشيطان إ بـلــه