يبين البحث أن الفقهاء اختلفوا في كون أكل لحم الإبل ناقضاً للوضوء على قولين :
الأول : يرى أن أكل لحم الإبل ناقض للوضوء ، وهو قول الظاهرية ، والمعتمد عند الحنابلة ، وإليه ذهب الإمام الشافعي في القديم ، واختاره بعض فقهاء المالكية كابن العربي وبعض فقهاء الشافعية كابن خزيمة وأبي ثور وابن المنذر والبيهقي والنووي .
الثاني : يرى أن أكل لحم الإبل لا ينقض الوضوء ، وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية ، والشافعية - في الصحيح عندهم - ، والزيدية .
وبعد استعراض أدلة كل فريق بالتفصيل وماورد عليها من مناقشات وردود تبين للباحث رجحان أدلة القائلين بأن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء ، وعليه فإن القول الراجح في المسألة هو القول بالنقض .
• • •
مقدمة البحث :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين ، قائد الغر المحجلين، وبعد فهذا بحث عن حكم ( نقض الوضوء بأكل لحم الإبل ) ، جمعت فيه آراء الفقهاء في هذه المسألة ، وكذلك أدلتهم ومناقشاتهم وردودهم بغية الوصول إلى القول الراجح.
وتنبع أهمية الموضوع من أن الوضوء الطهور ، ( والطهور شـطر الإيمان ) كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام ([1]) .
وقد قسمت البحث إلى تمهيد ومبحثين وخاتمة :
التمهيد : في معنى الوضوء والنقض والإبل .
المبحث الأول : في رأي القائلين بالنقض وأدلتهم ، وفيه مطلبان :
المطلب الأول : في رأي القائلين بالنقض .
المطلب الثاني : في أدلة القائلين بالنقض .
المبحث الثاني : في رأي القائلين بعدم النقض وأدلتهم ، وفيه مطلبان :
المطلب الأول : في رأي القائلين بعدم النقض .
المطلب الثاني : في أدلة القائلين بعدم النقض .
الخاتمة : في بيان القول الراجح وأسباب ترجيحه .
وآخراً أرجو من الله العلي القدير أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، وأن يعفو عن زلاتنا ، ويجبر تقصيرنا ، إنه على كل شيء قدير ، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
تمهيد : في معنى الوضوء والنقض والإبل
- في معنى الوضوء :
الوضوء في اللغة ([2]) مشتق من الوضاءة وهي النظافة والحسن ، وهو بضم الواو اسم للفعل ، وبالفتح اسم للماء الذي يتوضأ به ، وفي قول عند أهل اللغة فتح الواو فيها ، وفي آخر ضم الواو فيهما ، والأول هو المشهور ، والأخير هو أضعفها وأما في الاصطلاح الشرعي فسنكتفي بذكر تعريف واحد في كل مذهب :
الحنفية :
الوضوء ( هو غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس )([3]) .
المالكية :
الوضوء ( غسل أعضاء مخصوصة على وجه مخصوص )([4]) .
الشافعية :
الوضوء ( أفعال مخصوصة مفتتحة بالنية )([5]) .
الحنابلة :
الوضوء ( استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة وهي الوجه واليدين والرأس والرجلان ، على صفة مخصوصة )([6]) .
- في معنى النقض :
النقض في اللغة ([7]) إفساد الشيء بعد إحكامه ، تقول : نقضت البناء إذا هدمته ونقضت الحبل إذا حللت برمه ، ومن المجاز استعماله في المعاني كنقض العهد والوضوء .
وأما في الاصطلاح الشرعي فالفقهاء متفقون على معنى نقض الوضوء وإن اختلفت عباراتهم ، وهذا بعض منها :
الحنفية : قال الإمام الخوارزمي في الكفاية ([8]) - تحت عنوان [فصل في نواقض الوضوء] -:
( ... والنقض متى أضيف إلى الأجسام يراد به إبطال تأليفها ، ومتى أضيف إلى غيرها يراد به إخراجه عما هو المطلوب منه ... والمطلوب هنا من الوضوء استباحة الصلاة ) .
المالكية : قال الإمام البناني في حاشيته على الزرقاني ([9]) :
( نقض الوضوء : رفع استمرار حكمه ) .
الشافعية : قال الإمام الأنصاري في أسنى المطالب ([10]) :
( نواقض الوضوء يعني ما ينتهي به الوضوء ) .
الحنابلة : قال الإمام ابن مفلح في المبدع ([11]) :
( النواقض جمع ناقضة ... يقال : نقضت الشيء إذا أفسدته ، فنواقض الوضوء مفسداته ) .
قلت : ويعبر بعض الفقهاء ([12]) عن النواقض بالموجبات أو المفسدات أو المبطلات أو الأحداث ، واختلفوا في أي هذه الألفاظ أولى من الآخر ([13]) .
في معنى الإبل :
الإبل : بكسر الباء الجمال والنوق ، لا واحد لها من لفظها ؛ وهي مؤنثة لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين فالتأنيث لازم لها ؛ وربما قالوا للإبل إبْل يسكنون الباء للتخفيف ، والجمع آبال([14]) .
القائلون بالنقض :
ذهب الظاهرية ([15]) ، والحنابلة في المعتمد ([16]) عندهم ، والشافعي في القديم([17]) ، إلى أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء ، وهو قول محمد بن إسحاق([18]) ، وأبي خيثمة زهير بن حرب ([19]) ويحي بن يحي النيسابوري ([20]) ، وإسحاق بن راهويه ([21]) ، واختاره من الشافعية ابن خزيمة ([22])، وأبو ثور ([23]) ، وابن المنذر ([24]) ، والبيهقي ([25]) ، والنووي ([26])، ومن المالكية ابن العربي ([27]) .
قال الإمام الخطابي في معالم السنن ([28]) ( .. ذهب عامة أصحاب الحديث إلى إيجاب الوضوء من أكل لحم الإبل ) .
أدلة القائلين بالنقض :
الدليل الأول :
ما أخرجه الإمام مسلم ([29]) – وغيره ([30]) – في صحيحه بسنده عن جابر بن سمرة ( أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أ أتوضأ من لحم
الغنم []قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ ، قال : أتوضأ من لحم
الإبل [قال : نعم فتوضأ من لحم الإبل ، قال أصلي في مرابض الغنم ]قال : نعم ، قال أصلي في مبارك الإبل ]قال : لا ) .
الدليل الثاني :
ما أخرجه الإمام أبو داود ([31]) – وغيره ([32]) – في سننه بسنده عن البراء بن عازب قال: ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحم
الإبل ، فقال: توضؤوا منها ، وسئل عن لحم الغنم فقال : لا تتوضؤوا منها ، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل ، فقال : لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين ، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: صلوا فيها ، فإنها بركة ).
درجة الحديثين : هذان الحديثان صحيحان كما نص على ذلك أهل العلم بالحديث وإليك بعض أقوالهم .
1 – قال الإمام أحمد بن حنبل : ( فيه حديثان صحيحان ، حديث البراء وحديث جابر بن سمرة )([33]) .
2 – قال الإمام إسحاق بن راهويه : ( صح في هذا الباب حديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث البراء وحديث جابر بن سمرة )([34]).
3 – قال الإمام أبو بكر محمد خزيمة في صحيحه([35]) عقب حديث جابر بن سمرة :
( لم نر خلافاً بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل ) ، وقال عقب حديث البراء : ( … ولم نر خلافاً بين علماء أهـل الحديث أن هذا الخبر أيضا صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه ) ([36]).
4 – قال الإمام أبو بكر ابن المنذر في كتابه الأوسط([37]) : ( والوضوء من لحوم الإبل يجب ، لثبوت هذين الحديثين وجودة إسنادهما ) .
5 – قال الإمام البيهقي في معرفة السنن والآثار([38]) : ( .. وقد صح فيه حديثان عند أهل العلم بالحديث : أحدهما جابر ن سمرة …. والحديث الآخر حديث البراء بن عازب ) .
قلت : وقد صحح أحاديث النقض غير هؤلاء الأئمة ابن حبان([39])، والنووي([40])، وابن العربي المالكي([41])، وابن تيمية([42])، وابن القيم([43])، والألباني([44])، وغيرهم .
وجه الدلالة([45]):
إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء من أكل لحوم الإبل ، والأمر يقتضي الوجوب ما لم يصرفه صارف – كما هو مقرر عند عامة الأصوليين([46])- وإنما يجب الوضوء عند الانتقاض